بسم الله الرحمن الرحيم
نحن في زمان قلت فيه الأمانة، وكثرت فيه الخيانة، وأصبح كثير من الناس لا يؤتمنون، وإذا اؤتمنوا خانوا، وأصبحوا يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى أصبح يقال:إن في بني فلان رجلاً أميناً، لندرة الأمانة بين الخلق، وكأن الناس ما علموا أن الأمانة والرحم يقفان يوم القيامة على جنبتي الصراط يميناً وشمالاً، لعظم أمرهما وكبر موقعهما، وليطالبا من يريد الجواز بحقهما.وأما سلفنا السابقون فقد تجذرت الأمانة في قلوبهم، فبها يتبايعون، ويتعاملون، ولهم في ذلك قصص وأخبار.
من ذلك ما حكاه ابن عقيل عن نفسه:حججت فالتقطت عقد لؤلؤ في خيط أحمر، فإذا شيخ ينشده، ويبذل لملتقطه مائة دينار، فرددته عليه، فقال:خذ الدنانير، فامتنعت وخرجت إلى الشام، وزرت القدس، وقصدت بغداد فأويت بحلب إلى مسجد وأنا بردان جائع، فقدموني، صليت بهم، فأطعموني، وكان أول رمضان، فقالوا: إمامنا توفي فصل بنا هذا الشهر، ففعلت، فقالوا:لإمامنا بنت فزوجت بها، فأقمت معها سنة، وأولدتها ولداً بكراً، فمرضت في نفاسها، فتأملتها يوماً فإذا في عنقها العقد بعينه بخيطه الأحمر، فقلت لها:لهذا قصة، وحكيت لها، فبكت وقالت:أنت هو والله، لقد كان أبي يبكي، ويقول:اللهم ارزق بنتي مثل الذي رد العقد عليّ، وقد استجاب الله منه، ثم ماتت، فأخذت العقد والميراث، وعدت إلى بغداد.وقال ابن المبارك: استعرت قلماً بأرض الشام، فذهبت على أن أرده، فلما قدمت مرو نظرت فإذا هو معي، فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه.
2- في معركة اليرموك أرسل أحد قادة جيش الروم واسمه القُبُقلار، رجلاً من قضاعة يقال له ابن هزارف، فقال له:ادخل في هؤلاء القوم– يعني المسلمين– فأقم فيهم يوماً وليلة ثم ائتني بخبرهم .فدخل ابن هزارف في جيش المسلمين، فأقام فيهم يوماً وليلة، ثم رجع إلى قائد الروم، فقال له القائد:ما وراءك ؟قال: بالليل رهبان، وبالنهار فرسان، ولو سرق فيهم ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجم لإقامة الحد فيهم .فقال القائد: لئن كنت صدقتني لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها، ولوددت أن حظي من الله أن يخلي بيني وبينهم، فلا ينصرني عليهم، ولا ينصرهم عليّ .بهذه الكلمات اليسيرات عبّر هذا العربي عن بعض أسرار القوة التي عند المسلمين، والتي كانت من أسباب نصرهم على جيوش أكثر منهم عدة وعتاداً.